منظور عالمي قصص إنسانية

الملحن والعازف السوري كنان العظمة: عندما بدأت الحرب في سوريا كان صوتي الوحيد هو آلة الكلارينيت

العازف والمحلن السوري كنان العظمة في إحدى حفلاته الموسيقية.
©Claudia Höhne
العازف والمحلن السوري كنان العظمة في إحدى حفلاته الموسيقية.

الملحن والعازف السوري كنان العظمة: عندما بدأت الحرب في سوريا كان صوتي الوحيد هو آلة الكلارينيت

الثقافة والتعليم

إحياء للذكرى العاشرة للحرب في سوريا، وضع الفنّان كنان العظمة ابن مدينة دمشق الخلفية الموسيقية لـ "مشهد صوتي" مدته 4 دقائق يمزج 100 رسالة مسجّلة ذاتيا من سوريين، لتسليط الضوء على أصواتهم من خلال موسيقاه التي تصدح في جميع أنحاء العالم.

هو ملحن وعازف منفرد ومرتجل. شارك مع فرقة طريق الحرير SILKROAD التي تأسست عام 2000 وضمت عازفين وملحنين من أكثر من 20 دولة من مختلف الثقافات أبرزهم يو- يو ما Yo-Yo Ma أشهر عازف تشيلو في العالم ورسول الأمم المتحدة للسلام.

تعاون الموسيقي السوري كنان العظمة مع مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية عبر كتابة الموسيقى التي صاحبت "المشهد الصوتي" الذي تحدث فيه مواطنون سوريون عن حياتهم وتجاربهم منذ بدء الأحداث عام 2011.

 

Soundcloud

نستضيف الموسيقار السوري الحاصل على درجة الدكتوراة في الموسيقى كنان العظمة.

أخبار الأمم المتحدة: هل يمكن أن تعرّفنا عن نفسك، ومتى بدأ شغفك بالموسيقى.

كنان العظمة: اسمي كنان العظمة، موسيقي ومؤلف، عازف كلارينيت من دمشق في سوريا. مقيم في نيويورك في بروكلين منذ عشرين عاما تقريبا. من الصعب تذكّر بداية الشغف بالموسيقى، لأنني عندما بدأت تعلّمها كنت أعتبرها وظيفة مدرسية إضافية إن صح التعبير.

أتصور أن الشغف الحقيقي لم يكن بصناعة الموسيقى، وإنما بالاستماع إليها. منذ صغري كان والدايّ يحبّان أن نستمع أنا وشقيقتي للموسيقى في البيت. زراعة الشغف تكوّنت منذ ذلك الوقت، ولكن مع التمرين والدراسة، أصبح الشغف ليس فقط الاستماع للموسيقى بل أيضا كتابة موسيقى جديدة وتأدية أعمال لموسيقيين آخرين. لا توجد نقطة محددة تقرر البدء، بل هي نتيجة تراكمية لعدّة سنوات من الاستماع ومن الممارسة.

العازف والملحن السوري كنان العظمة: عندما بدأت الحرب كان صوتي الوحيد هو آلة الكلارينيت

أخبار الأمم المتحدة: كيف تربط سوريا بموسيقاك ومعزوفاتك وكيف تنقل الموسيقى السورية إلى العالم؟

كنان العظمة: هذا السؤال جميل وصعب في نفس الوقت. لا أعتقد أن لدينا الأدوات الكافية لتحليل الأعمال الموسيقية كي نعرف تماما من أين وصل كل مقطع موسيقي. أنا من دمشق وعشت أول 24 عاما من عمري هناك، وهي سنوات تأسيسية حقيقية للشخص. أحب أن أفكر أن الموسيقى التي أؤديها متأثرة بشكل كبير، بشكل عاطفي وبشكل عقلاني، بالبلد الذي أنحدر منه، وهي متأثرة بشكل كبير بالموسيقى التقليدية الموجودة في المكان، ولكنها ليست محصورة بهذا الإطار. دائما أحاول في الأعمال التي أؤديها – ليس لأثبت أي شيء لأي أحد – لكنني أشعر أن سوريا هي جزء من العالم والتراث البشري، الموجود بالبقعة الجغرافية التي تُدعى سوريا. هو تراث إنساني بالأساس.

تكون الموسيقى التي أكتبها أحيانا مرتبطة بشيء أو أحداث حصلت في سوريا، أو حدثت معي شخصيا، ولكنها ليست محصورة بهذا الإطار.

حقيقة أنني أقدّم موسيقى بدون كلام أمر يعطيني حرية أكبر أن أخاطب عددا أكبر من الجمهور

حقيقة أنني أقدّم موسيقى بدون كلام أمر يعطيني حرية أكبر أن أخاطب عددا أكبر من الجمهور. كلما أقدّم موسيقى، أحب أن تنتمي لما يُسمّى اليوم بالموسيقى السورية المعاصرة، ولكن أيضا أحبّ أن تنتمي للموسيقى المعاصرة بشكل عام لأن سوريا هي جزء أساسي وفعّال من هذا الوسط الموسيقي الكبير. كل قطعة تختلف عن غيرها، ثمّة قطعة أرغب تسليط الضوء فيها على الأمر الذي أفكّر فيه وهذا الأمر يكون ملموسا ومحسوسا. وفي بعض الأحيان تكون الموسيقى للموسيقى فقط وهذه حريّة أحب التمسّك فيها كمؤدٍ وكعازف وكمؤلف.

المحلن والعازف السوري كنان العظمة.
Liudmila Jeremies

أخبار الأمم المتحدة: ونحن نحيي الذكرى العاشرة للحرب في سوريا كيف اختلفت موسيقاك وأداؤك الموسيقي عن السابق؟

كنان العظمة: هذا سؤال مهم. ثمّة عدة فلسفات فيما يتعلق بأداء الفنون بشكل عام. تقترح إحدى النظريات عليك كفنانة أو كفنان أنك تحاول خلق العالم بطريقة مثالية بالنسبة لك. ثمّة مدرسة ثانية في التفكير تقول إن عمل الفنان هو مثل توثيق للزمان والمكان الذي يعيش به الفنان. أما أنا، فأنظر للأمور على أنني أمارس الفنّ لأختبر عواطف لم أختبرها في الحياة الواقعية من قبل، وأذهب لمكان جديد بالنسبة لي عاطفيا وعقليا. عندما بدأت الثورة عام 2011 والحرب التي تلتها، شعرتُ أنني أحس بعواطف لم أشعر بها من قبل. الحاجة للموسيقى انتفت بالنسبة لي، لمدة عام لم أقدر على كتابة الموسيقى، لكن لم أتوقف عن الأداء لأنه عملي ولأنني ملتزم بحفلات ومرتبط بعقود. ولكن ككتابة خلاقة لم يكن باستطاعتي لأن الحدث كان كبيرا جدا لأختصره بقطعة موسيقية أو حتى أستوعبه.

بعدها كتبت قطعة بعنوان "صباح حزين كل صباح" في آذار/مارس 2012، بعد مرور عام من التظاهرة الشعبية التي بدأت في سوريا في 2011. كانت هذه القطعة كتذكير لنفسي أن عليّ أن أتمسك بصوتي، نزل الشعب إلى الشارع في سوريا للتعبير عن آرائهم، وأردت أن أنضمّ إليهم وصوتي الوحيد هو الكلارينيت، تمسكت بهذه الأداة، وشعرت أن بإمكان هذه الأداة أن توصل صوتي بطريقة أفضل بكثير من الكلام. وحتى الآن أشعر أن موسيقايّ أكثر قدرة على التعبير من الحديث.

أخبار الأمم المتحدة: هل هناك سبب معيّن لاختيارك أداة الكلارينيت؟

كنان العظمة: نعم يوجد سبب، هو مضحك قليلا. أنا بدأت بعزف الكمان عندما كنت صغيرا جدا (5 أو 6 سنوات)، لكنني واجهت صعوبة كثيرا لأنني أعسر (أستخدم يدي اليسرى)، وعندما يبدأ العزف على الكمان ينبغي البدء باليد اليمنى، وكانت مهمّة صعبة جدا بالنسبة لي.

والدي شخص لديه فضول معرفي جدا، ومذهل، فكتب للموسوعة البريطانية، كانت لدينا مجلدات الموسوعة البريطانية، قبل الإنترنت وغوغل ومحركات البحث، فبعث لهم برسالة قائلا "إن ابني يتعلّم على الكمان وهو أعسر والأمر غير ناجع. ما هي اقتراحاتكم؟". بعد شهر تقريبا، أرسلوا لنا تقريرا كبيرا ومن ضمن الاقتراحات الدراسة مع عازف كمان أعسر حتى يتفهم صعوباتي، أو تعلم آلة أخرى تتطلب استخدام الذراعين بنفس الصعوبة وبنفس المهارات. وكانت من الآلات المتاحة في المعهد العربي للموسيقى بدمشق إما الكلارينيت أو البيانو.

ولأنني كنت صغيرا، كنت أعتقد أن الموسيقي يتجوّل ويرحل، وكنت أعتقد أن عازف البيانو يحمل آلته معه، ولذلك قررت أن أتوجه للكلارينيت، هل صدر هذا القرار عن وعي؟ لا أدري، هو قرار طفل عمره ستة أعوام. لكن إذا سُئلت اليوم هل سأختار هذه الآلة مرة أخرى، لقلت نعم سأختار الكلارينيت، لأنني اكتشفت أنها أقرب الآلات للصوت البشري في المساحة الصوتية وعلوّ أو انخفاض الصوت. أشعر أنها قريبة لصوتي وصوت الأشخاص من حولي، لذلك أنا متمسك بهذه الآلة بلا شك.

العازف والملحن السوري كنان العظمة.
Liudmila Jeremies

أخبار الأمم المتحدة: في مشهد صوتي مدته 4 دقائق يمزج 100 رسالة مسجّلة ذاتيا من سوريين مع موسيقاك، سلط مشروع للأمم المتحدة الضوء على عقد من الشهادات الحية على الحرب في سوريا. أخبرنا أكثر عن هذه المشاركة.

كنان العظمة: عندما طلبت مني الأمم المتحدة المشاركة بهذا المشروع، عن طريق مجموعة طريق الحرير، تحمست كثيرا، لأن تكون موسيقايّ شهادة صغيرة جدا من شهادات 100 شخص كانت أصواتهم مغيّبة لفترة طويلة جدا. بالنسبة لي كنت أحاول تسليط الضوء على أصواتهم من خلال مشاركتي. استخدمنا موسيقى من موسيقايّ، لكن هذا ليس هو المهم، المهم هو كل جملة تُقال في الرسالة الصوتية، أهم بكثير من كل موسيقى العالم. هذه أصوات أشخاص داخل سوريا وخارجها، أصوات مغيّبة لفترة طويلة، أسعدني أن أقدر على تضخيم هذا الصوت ليكون مسموعا أكثر.

أخبار الأمم المتحدة: كنت تجوب العالم بموسيقاك، هل أثّرت الجائحة على عملك؟ أم لا تزال تواصل جولاتك العالمية؟

كنان العظمة: ألغت الجائحة عملنا كموسيقيين نسافر ونقوم بالتجول وإحياء الحفلات. لكنني أقسّم حياتي لقسمين، أنا أؤلف الموسيقى ولكن أنا أيضا أؤدي الموسيقى، وأسافر على مسارح العالم وأعزف مع أوركسترا ومجموعات أصغر.

مهنة التأليف تتطلب زمنا طويلا. إذا كنت الآن أكتب قطعة لأوركسترا، أبدأ الآن بكتابة مقطوعة تُعرض في 2023. هذا الأمر لم يتأثر، وانتهزت الفرصة أننا في المنزل بدون سفر. كنت أنا وزوجتي معتادين على السفر، نسافر 8 أو 9 أشهر في السنة، انتهزنا الفرصة للتركيز على التأليف.

Tweet URL

لكن أيضا، علاقتي بالمكان تغيّرت. انتقلت لهذا المنزل في بروكلين منذ سنة ونصف، ولأول مرة منذ 20 سنة في الحياة بنيويورك أتعامل مع الطبيعة، لأول مرة أنظر إلى تربة مدينة نيويورك وطيورها، وتغيّر فصولها، لأنني كنت دائم السفر. علاقتي بالمكان أصبحت أقوى بكثير من ذي قبل. هل وجد ذلك طريقه للمؤلفات التي أكتبها؟ لا أعرف بعد. لكن تعززت علاقتي بالمكان، فلأول مرة أنظر للأسفل بطريقة إيجابية. قمنا بزراعة شجرة أزهار يابانية، من المذهل تغيّر العلاقة مع المكان في اللحظة التي تتم زراعة شجرة فيه. أدرك أنها ليست إجابة موسيقية أكثر، لكن علاقتي بالفنون بشكل عام ليست أهم من علاقتي بالحياة. أحاول دائما أن أنظر للموسيقى التي أؤديها كجزء صغير جدا مما تقدمه لنا الحياة. جائحة كـوفيد-19 بالنسبة لي – وأشعر بألم كل من فقد أحباءه – لكن بالنسبة لي كان من الضروري التركيز على الأساسيات في الحياة، وكان همّي أن أنظر داخليا أكثر من: متى الحفل المقبل.

أخبار الأمم المتحدة: أنت شاب طموح ولديك موهبة، والكثيرون مثلك. لكن ما هو سرّ وصول صدى أعمالك للعالمية؟

كنان العظمة: لا يوجد سرّ، وأشعر أن كلمة وصول هي كلمة ليست في مكانها، لا أحد "يصل"، أكثر ما يهمّني من هذه التجربة هو أنني أحبّ عملي. إذا وصلت فماذا يعني ذلك؟ أشعر بأنني محظوظ لأنني أقدّم موسيقايّ لشريحة كبيرة جدا من المستمعين في قارّات العالم، وأكثر شيء يسعدني أنني أنا مسرور بأنني أؤدي الموسيقى وأنني أشارك أشخاصا غريبين عني، وكأنك تقفين على رأس جبل وتصرخين وتعطي العالم كل أسرارك. بلا شك أن من العناصر التي ساعدتني، وجود أهلي المتفهمين ساعدني جدا، فقد تحمّلوا سماع صوت الكلارينيت، لم يكن صوتا جميلا في البداية، وتحمّله الجيران دون أن يشتكي أحد أبدا، كنت محظوظا بأساتذتي الذين درست معهم في المعهد العربي للموسيقى، هي سلسلة من الأمور ربما من أهم الأسرار هو أنني أعمل كثيرا، لكنني لا أعتبره عملا لأن لديّ شغفا بهذه المهنة، أو لا أعتبرها مهنة، بل هي صنعة.

كنت محظوظا بأساتذتي الذين درست معهم في المعهد العربي للموسيقى

ربما هذا هو السرّ الأساسي لأنني أطلب من نفسي أكثر، وأحاول تقديم ما يمسني. إذا لم أشعر بأن ما أؤديه أو أكتبه يمسّني، فهو لن يمسّ أي شخص آخر. لا أعرف إذا كان الأمر سرّا أم لا، لكن أتصوّر أن جميع الأشخاص لديهم هوس إن شئتِ، لكن الحظ يلعب دورا لأنني كنت في المكان المناسب في الوقت المناسب. كنت محظوظا بأساتذتي وبمحيطي.

أخبار الأمم المتحدة: الآن كيف تصف وضع الموسيقى في سوريا؟

كنان العظمة: من الصعب أن أخبرك ما هو الوضع موسيقيا في سوريا، لأنه جغرافيا داخل سوريا أعرف أن الكثير من الأشخاص يعملون بجد، وأتمنى لهم كل التوفيق، وأحيّي الجهود التي لا تزال تعمل وتنتج فنّا مجرّدا وحسّاسا وقويا رغم أكثر الأوقات قتامة.

ولكن بالطبع يوجد موسيقيون سوريون أصبحوا الآن خارج سوريا ويقومون بعمل مذهل. أرى هذه الأعمال عن طريق وسائط التواصل الاجتماعي، وليس بإمكاني أن أقدّم نظرة موضوعية. لكن بحسب رأيي، فإن الفنون التي ظهرت من سوريا خلال آخر 10 سنوات سواء داخل سوريا أو خارجها أمر مذهل، ليس فقط في الكم، ولكن أيضا بالجرأة والطرح وهناك تراكم حقيقي ربما لم أتنبه له من قبل، لكنه ظهر على السطح، وأصبحوا يتناولون أفكارا لم تكن متاحة من قبل.

بالنسبة لي كانت الموسيقى عملي، ولكنّها أيضا كانت رفاهية، والآن لم تعد رفاهية، أصبحت ليس فقط إثبات وجود بل إيصال صوت.. وأتصوّر أن هذا الانطباع ينعكس على الكثير من الموسيقيّين السورييّن داخل سوريا وخارجها.

أخبار الأمم المتحدة: ما هي المقطوعة الموسيقية التي تود أن تهديها لسوريا ولماذا؟

كنان العظمة: هناك الكثير من القطع، ولكن ثمّة قطعة دائما تخطر ببالي، وأقدّمها كثيرا خلال السنوات الخمس أو الست الماضية، منذ أن كتبتها. ثمّة قرية خارج دمشق تُدعى جسرين، كان جدي وجدتي لديهما منزل صغير فيها وقطعة أرض صغيرة. كنا نذهب مع والدايّ كل يوم جمعة إلى هناك (هي عطلة نهاية الأسبوع) للعمل في الأرض، نزرع المشمش والدراق والجوز، كنت أسقي الشجر وأحفر التربة منذ صغري. في جسرين توجد شجيرات كانت 5 أو 6 سنوات أصغر من عمري، زرعتها بنفسي، وكنت أذهب إلى هناك لفترة طويلة من الزمن.

كنت أتساءل دوما ما الذي حدث للجيران؟ ما الذي حدث لشجرات المشمش ولأهل القرية

جسرين هي قسم من غوطة دمشق – الحزام الأخضر المحيط بدمشق – تعرّضت لقصف مذهل خلال الأعوام الأخيرة، وكانت تحت الحصار لفترة طويلة. علاقتي مع المكان تأثرت جدا، كنت أتساءل دوما ما الذي حدث للجيران؟ ما الذي حدث لشجرات المشمش ولأهل القرية. كتبت هذه المقطوعة "جسرين" مهداة لجسرين تحديدا ولسوريا كلها مجازا، ولشجرات المشمش في جسرين وأرض جسرين، وأهمّ ما في ذلك لسكان جسرين الذين تركها معظمهم.

للاستماع إلى جزء من الحوار:

Soundcloud