منظور عالمي قصص إنسانية

جراح وحيد في مستشفى بجنوب السودان، يرفض الرحيل رغم المخاطر

الدكتور إيفان أتار أداها في غرفة العمليات في المستشفى الوحيد في بونج في مقاطعة مابان بجنوب السودان.
UNHCR/Will Swanson
الدكتور إيفان أتار أداها في غرفة العمليات في المستشفى الوحيد في بونج في مقاطعة مابان بجنوب السودان.

جراح وحيد في مستشفى بجنوب السودان، يرفض الرحيل رغم المخاطر

المساعدات الإنسانية

كرس الدكتور إيفان أتار أداها نفسه لتوفير الرعاية الصحية للأشخاص الأشد احتياجا في منطقة متوترة ومتقلبة في جنوب السودان.

بقلم دوناتيلا لورش في بونج، جنوب السودان (مفوضية شؤون اللاجئين).

يتولى الدكتور إيفان أتار أداها منصب رئيس قسم الجراحة والمدير الطبي في المستشفى في بونغ. لا يملك مكتبا، ولا يحب الجلوس.

يجري ما يصل إلى 10 عمليات جراحية في اليوم، ويمضي ساعات واقفا على قدميه، كما يساعد الممرضات في تجهيز المرضى ويفحص الجميع، بدءا من المصابين بطلقات نارية وصولا إلى مرضى الملاريا والأطفال الحديثي الولادة.

غالبا ما يكون أول من يدخل إلى غرفة العمليات، دافعا منصة الجراحة المعدنية الثقيلة إلى المكان المناسب. ويمكن رؤيته أيضا في جناح حديثي الولادة الجديد، يلاعب أحدهم. وجده أحد زملائه مؤخرا واقفا حافي القدمين على منصة العمليات في وقت متأخر من الليل وكان يغني بينما يصلح أحد المصابيح في السقف.  

يقول الدكتور أتار المعروف باسمه الأوسط: "نحن هنا لننقذ الأرواح، لا للجلوس. لا وقت للتكاسل في غرفة العمليات. جميعنا متساوون وجميعنا نشكل فريقا."

أكثر ما يشعرني بالفرح هو عندما أدرك أن ما قمت به أنقذ شخصا ما من المعاناة أو أنقذ حياته. - الدكتور أتار

الدكتور أتار الذي يبلغ من العمر 52 عاما هو كبير الجراحين والجراح الوحيد في مستشفى مابان للإحالة، الذي يضم 120 سريرا وغرفتي عمليات في بونج، الواقعة في الجزء الجنوبي الشرقي لولاية أعالي النيل في جنوب السودان.

يعتبر هذا المستشفى الواقع على بعد 600 كلم من العاصمة جوبا، المرفق الجراحي الوحيد العامل في النيل الأعلى وهو يضم قسما لحديثي الولادة وجناحا لمرضى السل يضم 20 سريرا.

يخدم المستشفى الذي يفتح أبوابه طوال 24 ساعة في اليوم أكثر من 200 ألف شخص. الدكتور أتار معروف جدا ويشير الكثيرون إلى المستشفى باسم "مستشفى د. أتار"، ويسافر المرضى لأيام للحصول على العلاج.  

ويقول الدكتور كاليسا يسيرو وابابيي، وهو طبيب من أوغندا يعمل في مستشفى مابان منذ أكثر من عامين: "هذا المستشفى شامل. إنه جامع للخدمات وهو نقطة الإحالة الأخيرة، ومستوى الاختصاص الأعلى". وتمول المفوضية عمل المستشفى من خلال عدة شركاء.

الدكتور أتار مع لاجئة من السودان قبيل الخضوع لعملية قيصرية في مستشفى بونج.
UNHCR/Will Swanson
الدكتور أتار مع لاجئة من السودان قبيل الخضوع لعملية قيصرية في مستشفى بونج.

يعمل الدكتور أتار وفريقه في بيئة صعبة وخطيرة. وتعاني جنوب السودان من نقص في المرافق والعاملين ذوي المهارات في المجال الصحي، كما أن هناك نقصا أيضاً في الأدوية والمعدات.

عندما حصل جنوب السودان على الاستقلال عام 2011، كان فيه حوالي 120 طبيبا و100 ممرض بينما بلغ عدد سكانه 120 مليون نسمة. ومنذ اندلاع الحرب الأهلية في ديسمبر 2013، ونزوح أكثر من أربعة ملايين شخص، تدهورت الرعاية الصحية.

في الماضي، تعرضت المرافق الطبية في جنوب السودان للنهب أو السطو، كما تعرض العاملون فيها للتخويف والاحتجاز والخطف والقتل. وكان يتم إطلاق النار على سيارات الإسعاف وسرقتها. ومنذ عام 2013، قتل 107 من العاملين في المجال الإنساني.

يعتبر الوضع في مقاطعة مابان متقلبا، وقد شهدت فترات مستمرة من العنف في الأعوام الأخيرة. وبعد الهجمات التي تعرضت لها مجمعات ومكاتب منظمات دولية، ومن بينها المفوضية في يوليو من هذا العام، بقي الدكتور أتار يعمل في المستشفى حتى عندما أجبر أفراد من طاقمه الطبي على المغادرة.

يتجاهل الدكتور أتار الخطر ويقول: "نعالج الجميع هنا بغض النظر عن هويتهم"، ويضيف مبتسما بأنه يبدو أن جميع أطراف النزاع يفهمون أيضا بأنهم يستفيدون من الرعاية الصحية الجيدة.

بتفاؤله الذي لا يقهر، وضحكته الدائمة وعناده الواضح في بعض الأحيان، لم يتخل عن تقديم الرعاية الصحية للأشخاص الأشد حاجة، ليصب تركيزه على هذه القضية.

الدكتور أتار مع لاجئة سودانية وابنها الذي يعاني من سوء التغذية.
UNHCR/Will Swanson
الدكتور أتار مع لاجئة سودانية وابنها الذي يعاني من سوء التغذية.

حصل الدكتور أتار، وهو من بلدة توريت في جنوب السودان، على منحة لدراسة الطب في الخرطوم ثم انتقل إلى مصر للتدريب الطبي.

عام 1997، انتقل إلى الكرمك في ولاية النيل الأزرق في السودان حيث أدار وسط الصراع الكبير ولمدة 12 عاما، غالبا تحت القصف، مستشفى أساسيا كان يعالج فيه الجرحى المدنيين بالإضافة إلى مقاتلين من كلا الجانبين.

ويتذكر الدكتور أتار قائلا: "عندما وصلت، كان المستشفى في حالة فوضى كبيرة وكان الشيء الوحيد المتبقي هو طاولة العمليات. كنا نستخدم خيوطا عادية لتقطيب الجروح وقضبان الشجر لوقف النزيف". ويقول الدكتور أتار بأن أغلى ما يملكه هو مجموعة من معدات البتر وحزمة صغيرة من مواد التعقيم سبق أن قدمهما له طبيب فرنسي.

عام 2011، وتحت وابل من القصف السوداني المكثف، انضم مع فريقه الكامل إلى عشرات الآلاف من السودانيين الذين فروا عبر الحدود إلى مقاطعة مابان في جنوب السودان. وقد شرع بتجهيز المعدات والأدوية في جرار وأربع سيارات. وقال عن الرحلة: "استغرقت منا الرحلة شهرا. لم يكن هناك طريق قابل للعبور. كان ذلك خلال موسم الأمطار، وكانت الأنهار فائضة".

في عام 2011، كانت بلدة بونج وهي البلدة الرئيسية في مقاطعة مابان، عبارة عن منطقة صغيرة تضم بضعة متاجر. وكان المستشفى مركزا للرعاية الصحية الأولية ولم تكن فيه غرفة عمليات. لإجراء العملية الأولى، أعد الدكتور أتار غرفة للعمليات وصنع منصة مرتفعة من خلال تكديس الأبواب فوق بعضها.

واليوم، وبالإضافة إلى سكان مابان المحليين البالغ عددهم 53 ألف شخص، تستضيف المنطقة المحيطة في بونج أيضا 144 ألف لاجئ من ولاية النيل الأزرق في السودان، منهم 142 ألفا يعيشون في أربعة مخيمات للاجئين. بالإضافة إلى ذلك، هناك 17 ألف شخص من جنوب السودان نزحوا داخليا جراء الصراع في مقاطعة مابان والمناطق المحيطة بها. ومع اشتداد القتال عبر الحدود، تتوقع المفوضية وصول 12 ألف لاجئ إضافي هذا العام.

ترتبط مرافق الرعاية الصحية في مخيمات اللاجئين بمستشفى مابان. ويجري فريق الجراحة المؤلف من 4 أطباء 58 عملية كل أسبوع كمعدل. وفي عام 2017، شكلت العمليات الجراحية التي خضع لها اللاجئون حوالي 70% من إجمالي العمليات الجراحية.

يعتبر الوضع في بونج والمناطق المحيطة بها متوترا ومتقلبا حيث تتصارع المجتمعات على الموارد المحدودة كالحطب والمساحات الزراعية والمراعي.

وقد أدت الصراعات المتكررة بين الأحزاب السياسية إلى تبادل لإطلاق النار. تمتثل وكالات الإغاثة لحظر التجول، وتأوي من تبادل إطلاق النار في ملاجئ واقية من الرصاص، وقد تم إجلاء موظفيها إلى جوبا في العديد من المرات. إلا أن الدكتور أتار لم يغادر بونج.

يقر بأن اختياره لهذا العمل صعب على زوجته وأولاده الأربعة، حيث لا يراهم سوى ثلاث مرات في العام. تعيش العائلة في نيروبي ويحاول الدكتور أتار البقاء على اتصال معها عبر الواتساب والبريد الإلكتروني عدة مرات في الأسبوع. ويقول: "يمكنني الآن مساعدة ابني الأكبر في الواجبات المنزلية في مادتي الفيزياء والكيمياء. عندما كنت في الكرمك، كانت الرسائل التي أكتبها تستغرق شهرا كاملا لتصل."  

لا يعتبر الدكتور أتار أنه يقوم بشيء استثنائي، وهو يعيش في خيمة من القماش أصبحت رثة نتيجة العوامل الجوية ويحتفظ بآلة خياطة يدوية في الرواق يستخدمها لصنع مناديل جراحية.

يقول إنه يستمد طاقته من شرب الحليب. يرتاح يوم الأحد بالذهاب إلى الكنيسة أو أخذ قيلولة في الهواء الطلق حيث يرقد على سرير قديم بدون فراش.

يقول: "يشبه الأمر النوم في غرفة مكيفة". يحب الغناء ويعمل أحياناً بنوبات على مدار 24 ساعة ويحب المزاح قائلا إن ممرضاته يسمونه دكتاتورا.

بينما يقوم بجولاته، يمازح الأطفال، ويناقش تنظيم الأسرة مع أم تتعافى من ولادة قيصرية ثالثة، ويشجع رجلاً بُترت ذراعه اليسرى وأُصيب بكسر في ساقه اليمنى على تعلم المشي باستخدام عكاز واحد. ومن الواضح أن مصدر سعادته الأول ليس القيام بعمليات جراحية فقط، بل أيضا التواصل مع مرضاه.

الدكتور أتار المسيحي الذي يجيد اللغة الرئيسية في المنطقة، وهي العربية، يصلي مع المرضى قبل تخديرهم وفقا لدينهم، فيقرأ الكتاب المقدس أو القرآن، ويقول: "أكثر ما يشعرني بالفرح هو عندما أدرك أن ما قمت به أنقذ شخصا ما من المعاناة أو أنقذ حياته. لا يكون الشفاء بالدواء وحده. عليك أن تطمئن المريض. في اللحظة التي تتواصل فيها مع المرضى، سوف يفتحون قلبهم لك... عندما يموت مريض بين يدي أشعر بحزن شديد".

ويعتبر الارتجال جزءا من عمله. وإذا دعت الحاجة، خصوصا خلال موسم الأمطار الذي يشهد انتشار الملاريا، يضاعف عدد المرضى في الأسرة وقد يضيف 60 مريضا.

يعتمد توفير الطاقة الكهربائية على مولدين وألواح شمسية. ويلزم الدكتور أتار جميع الأطباء باكتساب المهارات الميكانيكية الأساسية. وقد كان ذلك مفيدا في الآونة الأخيرة عندما تعطلت كل الأنظمة في بداية عملية جراحية. لا يوجد بنك للدم. ويعتقد الكثير من الناس هنا أنهم سيموتون إذا تبرعوا بالدم. ولا يتورع الدكتور أتار عن الضغط على أقارب المريض للتبرع.

يقول الدكتور أتار إن تقاعده غير مرجح. المستشفى هو ما يمده بالأمل ويعطي حياته معنى. ويقول بضحكة خافتة: "كلما زادت الخدمات الجيدة التي تقدمها، كلما أتى عدد أكبر من الأشخاص".