منظور عالمي قصص إنسانية

رغم خطر الترحيل القسري واعتداءات المستوطنين، أهالي قرى "مسافر يطا" في الضفة الغربية صامدون

رعاة فلسطينيون يكافحون تحت الاحتلال العسكري وعنف المستوطنين.
UNOCHA/Manal Massalha
رعاة فلسطينيون يكافحون تحت الاحتلال العسكري وعنف المستوطنين.

رغم خطر الترحيل القسري واعتداءات المستوطنين، أهالي قرى "مسافر يطا" في الضفة الغربية صامدون

المساعدات الإنسانية

تتعرض عائلات فلسطينية في "مسافر يطّا" لتضييق الخناق، فمن جهة تواجه الأسر السياسات الإسرائيلية المجحفة بحقهم، ومن جهة أخرى، تتعرض إلى عنف المستوطنين. لكن تأبى تلك العائلات أن ترحل، رغم جميع الضغوط.
 

ومسافر يطّا هي عبارة عن تجمّع من القرى الفلسطينية الواقعة في محافظة الخليل جنوبي الضفة الغربية. وتواجه هذه التجمعات السكانية خطرا متزايدا بالإخلاء.

خربة أم فجارة تقع في منطقة مسافر يطا في المنطقة (ج)، التي يجعل نظام التخطيط التقييدي الذي ينفذه الجيش الإسرائيلي حصول الفلسطينيين على رخص البناء فيها أمرا من ضرب المستحيل، مما يعوق إقامة المساكن والبنية التحتية وسبل العيش اللائقة. 

ومما يزيد من تفاقم هذه القيود أن الجيش الإسرائيلي صنف، خلال العقد الثامن من القرن الماضي، نحو 30,000 دونم من مجمل مساحة أراضي مسافر يطا، بما فيها خربة أم فجارة و13 تجمعا سكانيا صغيرا آخر (بلغ تعداد سكانها 3,000 نسمة تقريبا) باعتبارها "مناطق إطلاق نار" لغايات التدريب العسكري - منطقة إطلاق النار 918 - ويصنف نحو 30 في المائة من المنطقة (ج) "كمناطق إطلاق نار".

تجمعات سكانية ضعيفة

وتعد التجمعات السكانية الفلسطينية، البالغ عددها 38 تجمعا في هذه المناطق، من أشد التجمعات ضعفا في الضفة الغربية، حيث لا تملك سوى قدرة محدودة على الوصول إلى خدمات التعليم والصحة، والبنية التحتية للمياه والصرف الصحي والكهرباء. 

وفي العام 1999، أخلى الجيش الإسرائيلي سكان 14 تجمعا سكانيا فلسطينيا في منطقة إطلاق النار 918، بحجة أن سكانها كانوا يقيمون فيها على أساس موسمي ولم يستوفوا شرط "المقيمين الدائمين" فيها على الرغم من أن العديد من تلك الأسر كان في حوزتها وثائق تعود في تاريخها إلى ما قبل عام 1967 وتثبت أنها كانت تملك أراضيها. 

وبعد عدة أشهر، وفي أعقاب التماسات رفعها السكان، أصدرت محكمة العدل العليا أمرا مؤقتا يسمح للسكان الذين قدموا الالتماسات بالعودة إلى ديارهم إلى حين صدور قرار نهائي عن المحكمة. 

ولا يزال هذا الأمر ساريا. ومع ذلك، وحسب التصريحات التي وردت في العام 2012، كان موقف وزارة الدفاع الإسرائيلية يقضي بوجوب إخلاء ثمانية تجمعات سكانية. 

ويُحظر على أبناء التجمعات السكانية المهجرة الوصول إلى منطقة إطلاق النار، مع استثناءات تسمح بزراعة الأراضي ورعي الماشية فيها في عطلات نهاية الأسبوع أو خلال الأعياد اليهودية، حينما لا تجري تدريبات عسكرية. ويُسمح لأبناء التجمعات السكانية الأربعة الأخرى، ومنها خربة أم فجارة، بالبقاء فيها، ولكن يحظر عليهم تشييد مبانٍ وبنى تحتية إضافية. 

بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) هُجر أكثر من 700 شخص قسرا، من بينهم محمود حمامدة وأسرته، ودُمرت معظم منازلهم وممتلكاتهم أو صودرت. يقول محمود: "كانت تلك أسوأ فترة في حياتي. كنت أخشى أنني لن أعود إلى منزلي على الإطلاق."

محمود حمايدة: كنت أخشى أنني لن أعود إلى منزلي

"إننا نعيش في خوف ورعب. فقد اقتحم المستوطنون منازلنا وحطموا النوافذ. ويكاد النوم لا يلامس جفوننا في الليل."
UNOCHA/Manal Massalha
"إننا نعيش في خوف ورعب. فقد اقتحم المستوطنون منازلنا وحطموا النوافذ. ويكاد النوم لا يلامس جفوننا في الليل."

في 15 كانون الأول/ديسمبر 2021، كان محمود حمامدة يفلح قطعة أرض تقع على مقربة من خربة أم فجارة التي يقطنها عندما حضر إليه مسؤولون من الإدارة المدنية الإسرائيلية. 

وادعى مسؤولو الإدارة المدنية أن محمود كان يتعدى على أملاك مصنفة باعتبارها "أراضي دولة" وأن عليه أن يخلي المنطقة. فمع مرور السنوات، صنفت السلطات الإسرائيلية مساحات شاسعة من أراضي الضفة الغربية باعتبارها أراضٍ "عامة" أو أراضي "دولة" وخصصتها لصالح المستوطنات الإسرائيلية أو لغايات التدريب العسكري بصفة حصرية تقريبا، دون أن تخصصها لمنفعة التجمعات السكانية الفلسطينية. 

وافق محمود على مغادرة الأرض ريثما تُجرى تحقيقات إضافية بشأنها، واستطرد القول إنه سوف يطلع المجتمع الدولي على هذا الحادث. ثم أخطر المسؤول محمود بأن جراراه الزراعي سيصادر على الفور واستدعى شاحنة لجره مع محراث كان قد اشتراه لتوه. ولم تمضِ سوى فترة قصيرة على إصلاح الجرار الزراعي بعد هجوم شنه المستوطنون على خربة أم فجارة في أيلول/سبتمبر حيث حطموا نوافذه وأعطبوا إطاراته.

وطُلب إلى محمود أن يدفع نحو 4,500 شيكل (1,400 دولار) لقاء تكلفة سحب الجرار، حيث يمكن الإفراج عنه بشرط التزامه بالإحجام عن العودة إلى الأرض لمدة عامين. ولما رفض محمود هذا الشرط، بقي جراره محجوزا. ورفع محامي محمود التماسا إلى محكمة العدل العليا، وهما ينتظران رد الدولة عليه. 

وفي منتصف شباط/فبراير، وافقت الإدارة المدنية الإسرائيلية على الإفراج عن الجرار دون أن يدفع محمود غرامة، وكان يتعين عليه مع ذلك أن يدفع تكلفة جره وإعادته إلى الخربة. ومع غياب الجرار، ضاعت على محمود فرصة حراثة أرضه وتهيئتها لموسم محصولي القمح والشعير الشتويين، وتأجيرها لمزارعين آخرين. كما عطل فقدان الجرار الزراعي قدرة أبناء التجمع السكاني على الوصول إلى الأسواق والخدمات، حيث كان يستخدم في نقل البضائع، كصهاريج المياه والسكان على الطرق غير المعبدة والأراضي الوعرة. 

اعتداءات المستوطنين

نوافذ محطمة ومركبة أصابتها الأضرار بعد هجوم المستوطنين على خربة أم فجارة، فلسطين.
UNOCHA/Manal Massalha
نوافذ محطمة ومركبة أصابتها الأضرار بعد هجوم المستوطنين على خربة أم فجارة، فلسطين.

يكابد الفلسطينيون في مسافر يطا الأضرار بفعل التعديات المستمرة التي تسببها المستوطنات الإسرائيلية، التي تعد غير قانونية بموجب القانون الدولي الإنساني.

فبعد تصنيف مساحات كبيرة من الأراضي في مسافر يطا باعتبارها أراضي دولة في سبعينات القرن الماضي، أجّرت السلطات الإسرائيلية مساحة منها للمنظمة الصهيونية العالمية لغايات تطوير المستوطنات. وقد أسفر ذلك عن توسيع المستوطنات في شمال مسافر يطا وشرقها وجنوبها الشرقي، مما حدّ من حرية الفلسطينيين في التنقل والحيز المتاح لهم لرعي مواشيهم، التي تشكل مصدر دخلهم الرئيسي. وأفضى هذا الحال إلى زيادة الاعتماد على العلف، الذي يضطر الرعاة إلى شرائه بالدين.

وفي السنوات القليلة الماضية، وسع المستوطنون في البؤر الاستيطانية من نطاق سيطرتهم على الأراضي القريبة منها، بما فيها الأراضي الواقعة داخل منطقة إطلاق النار، وقوّضوا الأمن المادي في أوساط السكان الفلسطينيين من خلال أعمال الترويع والعنف.

وقد شهد محمود عددا لا يحصى من حوادث عنف المستوطنين على مر السنين. ففي العام 2006، قتل المستوطنون 100 رأس من أغنامه، بعدما سمّموها حسب قوله. ويلاحظ محمود أن حوادث عنف المستوطنين زادت في العام 2021، حيث وقع أخطر هذه الحوادث في يوم 28 أيلول/سبتمبر، عندما هاجم إسرائيليون من بؤرتي أفيغايل ومزرعة ماعون الاستيطانيتين التجمع وأصابوا تسعة فلسطينيين بجروح. وأصيب حفيد محمود، الذي يبلغ من العمر ثلاثة أعوام، بحجر في رأسه وهو في سريره ونقل إلى مستشفى إسرائيلي. 

"الأمان أن تشعر بالراحة وأن تنعم براحة البال. وأن تُحرم الأمان يعني أن تشعر بالذل." أحمد، 71 عامًا، خربة أم فجارة
UNOCHA/Manal Massalha
"الأمان أن تشعر بالراحة وأن تنعم براحة البال. وأن تُحرم الأمان يعني أن تشعر بالذل." أحمد، 71 عامًا، خربة أم فجارة

جهود لمساعدة الفلسطينيين

تواصل المنظمات الإنسانية والمانحون تقديم المساعدات لأبناء التجمعات السكانية في مسافر يطا في سياق الجهود التي تبذلها للوفاء باحتياجات السكان الأساسية والحيلولة دون ترحيلهم القسري عنها. 

مع ذلك، تعوق السلطات الإسرائيلية هذه المساعي بإصدار أوامر الهدم أو وقف العمل بشأن العديد من المواد المقدمة، وبمصادرة المركبات والمعدات ومن خلال القيود التي تفرضها على إمكانية الوصول إلى الأراضي ووصول العاملين في المجال الإنساني إلى هذه المنطقة. 

وفقا لأوتشا، صدرت أوامر الهدم التي تستهدف المدارس الأربع في المنطقة، والتي شيدت كلها بدعم من المجتمع الدولي، وهي بانتظار تنفيذها. وهذا هو حال المراكز الطبية الأربعة التي تداوم فيها فرق صحية متنقلة مرة كل أسبوعين. وعلى الرغم من إعداد مخطط هيكلي محلي لخربة أم فجارة، والذي من شأنه أن يتيح تشييد البنية التحتية الأساسية ومنازل جديدة، فقد رفضته الإدارة المدنية الإسرائيلية. ولا يزال الطعن الذي رفع على رفض المخطط بانتظار البت فيه أمام محكمة العدل العليا الإسرائيلية.

تعيش العائلات الفلسطينية على مقربة من المستوطنات في منطقة H2 في الخليل بالضفة الغربية.
© UNRWA/Kazem Abu Khalaf
تعيش العائلات الفلسطينية على مقربة من المستوطنات في منطقة H2 في الخليل بالضفة الغربية.

ولا يُربَط أي تجمع من التجمعات السكانية الفلسطينية في مسافر يطا بشبكة الكهرباء الإسرائيلية، وبالتالي يعتمد سكانها على منظومات الألواح الشمسية التي تقدمها الجهات المانحة الدولية. 

وثمة أوامر هدم معلقة بشأن معظم هذه المنظومات، ولا سيما الكبيرة منها. كما قدم المانحون الدوليون الدعم للمشاريع التي استهدفت ربط 11 تجمعا من هذه التجمعات بشبكة المياه. ودمرت الإدارة المدنية الإسرائيلية هذه الشبكة عدة مرات، ثم أصلحت بدعم دولي. ولا تزال الطعون القانونية المرفوعة على أوامر الهدم بانتظار الفصل فيها. ويؤدي تعطيل الخدمات إلى إجبار العديد من الأسر الضعيفة على شراء مياه الصهاريج من الباعة في القطاع الخاص بأسعار تزيد بخمسة أضعاف عن سعر المياه المنقولة بالأنابيب. 

تفرز هذه البيئة القسرية الضغط على كاهل السكان لحملهم على الرحيل عن هذه المنطقة، وهو ما قد يرقى إلى مرتبة الترحيل القسري – الذي يشكل مخالفة جسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة. 
إلا أن محمود عقد العزم على عدم الرحيل رغم الضغوط: "مع أننا نواجه مشاكل عديدة، لن أرحل. نحن نعلم أننا نواجه خطر الترحيل القسري، ولكن كل هجوم يشنه المستوطنون علينا لا يقوي إلا عزيمتي وأنا مصمم على ألا أتزحزح من هنا."

تواصل السلطات الإسرائيلية إصدار أوامر الهدم، مما يشل قدرة السكان على توسيع منازلهم القائمة أو المحافظة عليها. وبين العامين 2011 و2021، هدمت القوات الإسرائيلية أو صادرت 20 مبنى في التجمع، حيث وقع أبرز حادث من هذه الحوادث في العام 2011، عندما هُجر ثمانية بالغين و30 طفلا وهُدم مسجد التجمع ودُمرت مضخات المياه ومولد الكهرباء.

*نُشرت هذه المقالة بالكامل على الموقع الإلكتروني لأوتشا.